الأحد، 21 سبتمبر 2025

سوق إملشيل يعيد دفء الذاكرة إلى أعالي الجبال ويستبق زمهرير الشتاء

 

سوق إملشيل
سوق إملشيل

سوق إملشيل يعيد دفء الذاكرة إلى أعالي الجبال ويستبق زمهرير الشتاء

في عمق الأطلس الكبير الشرقي، وعلى مشارف نهاية شهر شتنبر، يتجدد الموعد السنوي مع موسم إملشيل، الحدث الذي بات جزءا من الذاكرة الجماعية لقبائل الجبل، ليس لأنه حدث تجاري أو فني فحسب، بل لأنه يعكس تداخلا عميقا بين ضروريات الحياة اليومية ومكونات الهوية الثقافية، بين ما تفرضه الطبيعة من قسوة، وما تحتفظ به الذاكرة من دفء، بين واقع المعيشة الجبلية وما يرافقه من رموز تراثية راسخة.

في صباح تنخفض فيه درجات الحرارة إلى مستويات تذكّر بقدوم الشتاء القاسي وأولى زخات المطر، تبدأ حركة غير عادية في السوق المنصوب مؤقتا وسط جماعة بوزمو. 

هناك، على امتداد خيام متجاورة، تُعرض مئات القطع من الأغطية الصوفية والملابس التقليدية، وسط إقبال لافت من السكان المحليين وزوار موسميين اعتادوا أن يتخذوا من هذا السوق محطة سنوية لا غنى عنها في الاستعداد للشتاء.

الملابس الصوفية، خاصة الجلباب و”السلهام”، والأفرشة اليدوية تتحول في هذا السوق إلى سلعة استراتيجية، تتجاوز قيمتها الوظيفة المادية إلى ما يشبه طقسا من طقوس التهيؤ الجماعي لموسم طويل من البرد والثلوج. ويؤكد عدد من الزوار أن المنتجات الصوفية التقليدية تبقى الخيار الأكثر موثوقية، لكونها مصنوعة يدويا من صوف الغنم المحلي، ما يمنحها قدرة أكبر على توفير الدفء مقارنة بالملابس المستوردة التي لا تصمد كثيرا في المناطق الجبلية المعروفة بقسوة المناخ.

يقول سعيد مرغيش، القادم من آيت عبدي، إن السوق يوفر ما يحتاجه سكان المنطقة من لوازم الشتاء، لا سيما الملابس الثقيلة والأغطية الصوفية. ويضيف أن أغلب الزوار يفضلون المنتجات المحلية التي لا تزال تحافظ على جودتها رغم منافسة السلع الحديثة. ويعتبر أن موسم إملشيل لا ينفصل عن تراث المنطقة، بل يعيد تجسيده في تفاصيل الحياة اليومية، من طريقة اللباس إلى الفلكلور المحلي، مرورا بالتقاليد التجارية المتوارثة.

أما إبراهيم الزاوي، وهو زائر منتظم للموسم، فيؤكد أن هذه الفعالية تكتسي أهمية مزدوجة، اقتصادية وثقافية، مشيرا إلى أن الأسر القروية تستفيد من هذه المناسبة لترويج منتجاتها، سواء تعلق الأمر بالصناعات التقليدية أو المنتوجات الفلاحية. ويشير إلى أن السوق لا يقتصر على البيع والشراء، بل يشكل فضاء للتلاقي بين أبناء الجبال الذين تقطع بينهم المسافات والتضاريس، ويتحول إلى لحظة احتفالية موسمية تستعيد من خلالها الجماعة الريفية شيئا من تماسكها الاجتماعي.

رغم بساطة الوسائل وظروف التنظيم المحدودة، إلا أن السوق ينجح كل عام في استقطاب اهتمام واسع من الساكنة، وهو ما يعكس حاجة حقيقية لهذه الفضاءات التي تؤدي دورا مضاعفا، فهي من جهة توفر ضروريات الحياة في منطقة معزولة نسبيا عن مراكز التوزيع الكبرى، ومن جهة أخرى تحفظ استمرار نمط اقتصادي محلي قائم على الحِرَف اليدوية والتعاونيات الصغيرة.

أحمد بحدو، أحد التجار الذين يترددون على موسم إملشيل منذ سنوات، يوضح أن ما يميز هذا السوق عن غيره هو نوعية الزبائن الذين يعرفون تماما ما يبحثون عنه. يقول إن أغلبهم يرفضون اقتناء المنتجات الحديثة أو المستوردة، ويفضلون الصوف الطبيعي، رغم غلاء ثمنه، لأنه يضمن لهم التدفئة في ليالي الشتاء الطويلة. ويؤكد أن الحرفيين الذين يصنعون هذه المنتجات يشتغلون على مدار السنة، ويعتبرون الموسم محطة أساسية لتصريف ما راكموه من إنتاج.

ويضيف بحدو أن الطلب يرتفع بشكل خاص على الجلباب المصنوع من الصوف الخالص، وكذلك “السلهام” والأغطية الثقيلة، وهي منتجات لا تزال تُنجز بأساليب تقليدية تعتمد الغزل اليدوي والصباغة الطبيعية. ويرى أن الإقبال المتزايد على هذه السلع يعكس نوعا من الوعي المتجدد بقيمة الحرف التقليدية، في زمن باتت فيه الصناعات الحديثة تفتقر إلى الطابع الإنساني والهوية الثقافية.

زائر للموسم لا يخرج بانطباع واحد؛ إذ يجد نفسه أمام فسيفساء من مظاهر الحياة القروية التي تختزل مشهدا اجتماعيا متكاملا: السوق، الفلكلور، اللباس، وأحاديث الناس عن تغيرات الطقس، وعن غلاء الأسعار، وعن المواسم الفلاحية. وفي المساء، تبدأ أهازيج فرق أحواش في بث نغماتها المعتادة، وكأنها تبارك للمنطقة انطلاقة سنة جديدة من الصبر والمقاومة.

ولا تقتصر أهمية موسم إملشيل على المجال المحلي، بل بدأ إشعاعه يمتد إلى السياحة الداخلية، حيث يسعى عدد متزايد من الزوار القادمين من المدن الكبرى لاكتشاف هذه التجربة الفريدة، والاحتكاك بثقافة أصيلة ما زالت تحافظ على مظاهرها رغم التغيرات التي يعرفها المحيط. ويجد هؤلاء في موسم إملشيل فرصة لاكتشاف نمط حياة مختلف، قائم على البساطة والتضامن، وعلى معاني الصبر والكرم التي لا تزال تشكل جزءا من يوميات ساكنة الجبل.

في نهاية اليوم، ومع بدء انخفاض درجات الحرارة، تنتهي جولة السوق لكن انطباع الزوار يبقى عالقا. إنه ليست مجرد سوق تقليدي، بل مشهد حيّ من مشاهد مقاومة البرد بالصوف والتراث، ومقاومة العزلة بالتلاقي، ومقاومة النسيان بالاحتفال بما تبقّى من ذاكرة الجبل

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق